بقلم منى النشار خبيرة الشئون الخارجية ما هى رسائل بوتين إلى الولايات المتحدة بعد زيارة الزعيم الكورى شمالى إلى روسيا (2)


مثلث الرعب النووى فى شرق آسيا ,هكذا تنظر واشنطون للعلاقات الروسية الصينية الكورية شمالية. لتأتى القمة المزعجة التى عقدت بين كيم جونج أون زعيم كوريا الشمالية والرئيس الروسى فلادميربوتين لتزيد الوضع التهابا ,خاصا وأن تلك الزيارة المثيرة للجدل جاءت فى توقيت حرج للغاية حيث تواصل روسيا عدوانها على الآراضى الأوكرانية ,وتخشى واشنطون من ترسانة الأسلحة السوفيتية الهائلة التى تمتلكها بيونج يانج والتى يمكن أن تصدرها إلى موسكو ,الأمرالذى سيزيد الأوضاع الميدانية تعقيدا.
وفى حالة أقدم مثلث الرعب النووى هذا الذى تصنفه واشنطون بالمعادى على مزيد من التنسيق فيما بينهم فسيتحول الوضع إلى كابوس جيوسياسى على مصالح الولايات المتحدة ,فهذة الدول الثلاثة تمتلك أسلحة نووية ويقدرعدد جيوشها بحوالى الثلاثة ملايين.
علاوة على المكانة الدولية الكبيرة التى تحظى بها كل من بكين وموسكو على المستوى الإقتصادى والسياسى فى كافة الميادين وعلى رأسها مجلس الأمن الدولى ,بخلاف الأطر المؤسسية المعادية التى تجمع بينهما وهما بريكس وشنغاهاى.
يزيد الأمر خطورة أنه يقابل مثلث الرعب الشرقى هذا المثلث الغربى فى المنطقة والذى يضم إضافة إلى الولايات المتحدة اليابان وكوريا الجنوبية ,ويجمع واشنطون وطوكيو تحالف أوكوس المعادى للصين.
الأمر الذى يجعل من المنطقة صفيحا ساخنا تتصاعد منه ألسنة اللهب ,لتأتى قمة بوتين وكيم جونج أون لتزيدها حرارة.
ويبدو أن موسكو استشعرت ارتياحا لهذة الهواجس التى تقد مضاجع واشنطون فعملت على تأجيجها ,حيث أعلن الكريملين أن موسكو مستعدة لدعم بيونج يانج على كافة المستويات ,كما المح بوتين أن موسكو ستساعد بيونج يانج على بناء أقمار اطصناعية ملمحا لإمكانية تعاون عسكرى بينهما.
فى المقابل كانت كوريا الشمالية من قلائل الدول التى اعترفت بما تسميه روسيا جمهوريتى دونيستك ولوجانسك ,كما أعلن كيم جونج أون أن بيونج يانج مستعدة لتقديم الدعم العسكرى إلى موسكو قائلا "دائما ما عبرنا عن الدعم الكامل وغير المشروط لكافة الإجراءات الروسية ,واستطرد سنقف دائما إلى جانب روسيا" مؤكدا على ما اسماه بالحرب المقدسة.
ولقد تحدثنا فى المقالة السابقة بنفس العنوان عن السياق التاريخى الذى حدثت فى إطاره الحرب الكورية والتى تكشف بجلاء أبعاد تلك العلاقة الخطيرة بين كوريا الشمالية وحليفيها التاريخيين الصين وروسيا.
وبالرغم أنه قد مر سبعون عاما على تلك الحرب , إلا أنها لازلت تنير لنا الطريق لفهم طبيعة التحالفات الدولية فى منطقة المحيط الهادئ ,ولازالت تكشف عن مآلات تلك العلاقة فى هذا التوقيت الحرج الذى تمر به الإنسانية وأدخنة الحرب العالمية الثالثة تزداد وهجا يوما بعد يوم.
وبالتوقف قليلا عند تلك الحرب ثمة دلائل تفرض نفسها.
الدلالة الأبرز هى أنه على الرغم من زوال الصراع الفكرى الذى كان سائدا وقت الحرب الباردة إلا أن الرابط الرئيسى الذى يحكم علاقات بيونج يانج مع بكين وموسكوهو الرابط الجيوسياسى ,حيث يمثل الزحف الأمريكى ذو الطابع العسكرى فى المحيط الهادئ تهديدا وجوديا للصين وروسيا يدفعهما لمزيد من الارتباط والتنسيق.
على الجانب الآخرلازالت كوريا الشمالية تمثل لهما نفس الأهمية الجيوسياسية ,حيث أنها الطرف المارق الذى يهدد كوريا الجنوبية أحد أهم الأذرع الأمريكية فى المحيط الهادئ ,الأمر الذى تكتسب معه بيونج يانج أهمية خاصة فى إحداث التوازن المطلوب.
من ناحية ثالثة فعلاقة بكين بسول وطوكيو متوترة ,بسبب نوايا الصين المعلنة باستعادة جزيرة تايوان ومضيقها ,الرئة الإقتصادية التى تتنفس بها كل من كوريا الجنوبية واليابان ,الأمر الذى سيجعل الصين تتحكم فى الممرالرئيسى الذى تعتمد عليه الدولتان فى واردات الطاقة وصادراتهما.
علاوة على ذلك سياسات الصين فى بحر الصين الجنوبى وإدعاء ملكية معظم جزره وبناء القواعد العسكرية على بعضها , بخلاف سياسة الصين المعروفة بعقد اللؤلؤ ,وهى تعنى فرض النفوذ السياسى والإقتصادى على مناطق الاختناق المرورى فى العالم من مضيق باب المندب وحتى مضيق تايوان ,الأمر الذى يمثل تهديدا كبيرا لمبادئ التنمية لدول المنطقة وعلى رأسهم كوريا الجنوبية واليابان ,هذة المبادئ هى حرية الملاحة وحرية التجارة.
تلك السياسة أفقدت الثقة بين الصين وكثير من دول المنطقة وخلقت مناخا معاديا دفعتهم لمزيد من التقارب مع الولايات المتحدة ,دفع ذلك فى المقابل الصين للتشبث بكوريا الشمالية كحليف وثيق ووحيد - تقريبا - لا يمكن الاستغناء عنه لمواجهة الأطراف المعادية.
فى المقابل من السياسات الصينية فى المنطقة ,دشنت الولايات المتحدة مفهوما جديدا يعبرعن مصالحها وأهداف أمنها القومى فى ذات المنطقة وهو مفهوم الإندوباسيفيك ,أى إعادة صياغة لمنطقة المحيطين الهادئ والهندى ,بحيث يعيد منظومة العلاقات بين دول المنطقة بالشكل الذى يوطد علاقاتهم مع واشنطون ضد بكين ,وفى إطار تلك السياسة عقدت الإتفاقات المعادية وهى كواد وأوكوس ,مقابل مجموعتى بريكس وشنغاهاى اللذين يضمان بكين وموسكو.
الدلالة الأخرى ترتبط بالتحالفات الدولية فى المنطقة ,
فقد شهد موقع اليابان فى خريطة التحالفات تحولا درامتيكيا منذ الحرب العالمية الثانية ,حيث كانت تتخندق فى الخندق الألمانى ضد دول الحلفاء الذين كان من بينهم الصين وروسيا والولايات المتحدة ,ولكنها عقب هزيمتها النكراء فى الحرب تحولت إلى حليف وذراع لواشنطون فى منطقة المحيط الهادئ.
الأمر الذى يمثل تهديدا لكل من الصين العدو التاريخى لليابان , وروسيا أيضا التى يربطها باليابان صراعات تاريخية وتقوم باحتلال جزرالكوريل منذ نهاية الحرب.
جدير بالذكر أن الحلفاء تشرزموا ,وأصبحت الصين وروسيا فى جانب ,ضد الولايات المتحدة.
أما طوكيو فقد تخندقت فى تحالف أوكوس مع واشنطون المعادى لبكين.
الأمرالذى يجعل من بيونج يابنج تكتسب أهمية خاصة فى صراع التحالفات والتحالفات المضادة.
ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى اللحظة ,مر النظام الدولى بتحولات عدة ,إلا أنه عاد مرة أخرى لوضع مشابه لما كانت عليه الأمور إبان الحرب الباردة.
فقبل أن تسدل الحرب العالمية الثانية ستائرها ,كانت قد ولدت الحرب الباردة ,حينما أدرك الطرفان السوفيتى والأمريكى أنهما أسياد العالم الجدد بعد أن أصاب الإنهاك القوى العظمى التقليدية بريطانيا وفرنسا وأصبحا أسودا عجوزة لا تقوى على قيادة العالم وأدركا بدورهما أن زمانهما إنتهى.
ولكن امتلاك الطرفين السوفيتى والأمريكى السلاح النووى عمل على إحداث التوازن بينهما فكانت الحرب الباردة.
أعدت واشنطون الخطط بعيدة الأمد للتخلص من عدوها الروسى حتى كان لها ذلك فى مطلع التسعينيات من القرن الماضى حينما انهارالإتحاد السوفيتى فتفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم وعاثت فسادا وتجبرا للحد الذى أنهكها وخلق لها فاتورة باهظة.
لم يرق هذا الوضع للصين وروسيا اللذين استشعرا خطرا وجوديا من الهيمنة الأمريكية ,وعمل ذلك على التقارب والتنسيق بين بعضهما لمواجهة الخطر الأمريكى.
أما كوريا الشمالية فهى فى موقعها التقليدى المعادى للولايات المتحدة ,ومن ثم تبحث عن الاطراف التى تشاركها هذا العداء.
دار الزمان دورته واستعادت موسكو خلال حكم الرئيس فلادمير بوتين قدرا كبيرا من مكانتها الدولية التى فقدتها.
أما بكين فقد حققت طفرة اقتصادية مقلقة لواشنطون التى بات يظهرعليها التعب والإنهاك وجاء دورها لتصبح الأسد العجوز الذى لم يعد قادرا على فرض كلمته على العالم.
وجاءت الحرب الأوكرانية لتكشف عن طبيعة اللحظة الدولية.
فواشنطون غير قادرة على عدة أمور ,إعاقة الإجراءات التى تراها موسكو ضرورية للدفاع عن مصالحها ,فض التحالف الصينى الروسى ,فرض كلمتها على دول العالم بفرض عقوبات على موسكو.
من ناحية أخرى كشفت الحرب الأوكرانية عن طبيعة الصراع الذى يوسم النظام الدولى حاليا , أطراف
-الصين وروسيا -رافضة للهيمنة الأمريكية ,وراغبة فى الدفع بعالم متعدد الأقطاب ,وطرف -الولايات المتحدة- رافض لأية تغيرات تمس وضعه كطرف مسيطر يجلس وحده على عجلة قيادة العالم.
ومن جديد عاد العالم إلى حرب باردة وثنائية قطبية بصيغة جديدة.
ويلهث الطرفان خلف أى طرف يعادى الطرف الآخروالإفادة من أدواته المزعجة.
وبعد أن استعرضنا دلالات الحرب الكورية وتطورات النظام الدولى وكشفنا عن سبب الصراع الدولى ,نعود للتساؤل الرئيسى ,ما سبب زيارة زعيم كوريا الشمالية إلى روسيا ,وما هى رسائل بوتين إلى الولايات المتحدة من هذة الزيارة.
ينبرى الإعلام الغربى بالإدعاء أن موسكو استنزفت نفسها عسكريا ,وأصبحت فى حاجة ماسة إلى المخزون الهائل من القذائف والذخيرة الكورية الشمالية التى يمتلك منها كيم جونج أون كميات هائلة.
وقد صرح الجنرال مارك ميلى رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكى ,أنه يحتمل أن تزود بيونج يانج حليفتها موسكو بقذائف مدفعية من عيار 152ملم.
فى المقابل تريد كوريا الشمالية تطويرأسلحتها خاصا النووية ,والأقمار الاصطناعية التى تستخدم فى التجسس ,علاوة على اتفاقات تلبى الاحتياجات الغذائية.
قد يكون هناك بعض الحقيقة فى ذلك ,خاصا المتعلقة بطموحات كيم جونج أون ,إلا أن الذخيرة الكورية شمالية لا تحظى بأولويات بوتين من وجهة نظرهذة السطور ,فالرئيس الروسى لديه عدة أهداف من هذة الزيارة.
- إثارة القلق لدى كوريا الجنوبية -ذراع واشنطون فى المنطقة- لإحداث ضغط على الولايات المتحدة
وإرباك تحالفاتها والكشف عن عواراتها السياسية باعتبارها أسد عجوز لانت أنيابه وتثار حوله الشكوك فى مصداقية وعوده وقدرته على حماية أشباله ,الأمر الذى يمثل تعزيزا للذهنية الدولية التى باتت متنامية لدى أصدقاء واشنطون باعتبارها الحليف الذى لا يؤتمن.
- إرسال رسالة إلى واشنطون مفادها أن موسكو لديها أصدقاء لايستهان بهم سواء فى بيونج يانج أوبكين أو طهران أو الشرق الأوسط أو إفريقيا ,والإفادة من الأدوات المزعجة لبعض هذة القوى فى تهديد واشنطون.
- التصعيد ضد واشنطون من خلال تصعيد العلاقة مع بيونج يانج- الطرف الذى يملك السلاح النووى- وذلك من أجل دفع عملية السلام مع أوكرانيا وفقا للمرجعية الروسية.
فى النهاية يريد بوتين من كيم الحفيد ما أراده ستالين من كيم الجد ,مخلب قط لواشنطون ,وفى كل الأوقات تتطوع كوريا الشمالية للقيام بهذا الدور.
لم تسفرهذة الزيارة" الخالدة "وفقا لبعض المنصات عن نتائج معلنة ,بخلاف بعض الهدايا الرمزية ذات الطابع العسكرى التى عاد بها كيم جونج أون ,تغذى المخاوف الأمريكية ,وسط تحذيرات أمريكية مشددة من أى تعاون عسكرى بين البلدين ,حيث قال الجنرال مارك ميلى
" سنراقب نتائج هذا الاجتماع عن كثب ,أود أن أذكر البلدين بأن إرسال كوريا الشمالية أى أسلحة إلى روسيا سيعتبر انتهاك مباشر لقرارات مجلس الأمن " فى الوقت الذى صرح فيه ديمترى بيسكوف المتحدث باسم الرئاسة الروسية أن روسيا ستواصل تعزيز علاقات الصداقة مع كوريا الشمالية.
وقد غادر كيم جونج أون روسيا سعيدا على حد تعبيره متمنيا لشعبها الرفاهية شاكرا بوتين على العناية الخاصة ,بعد ستة أيام فى زيارة إستثنائية فى عالم العلاقات الدولية ,تخللها معاينة أسلحة متطورة بينها صواريخ فرط صوتية.
وقد وصفت الوكالة الكورية الشمالية الرسمية الزيارة بأنها ستشع فى التاريخ وتعزز وحدة النضال بين البلدين مع تدشين " فصل جديد " من العلاقات بينهما.
عند أوصاف كهذه نستطيع أن نقول أن الزيارة نجحت فى تحقيق الأهداف المبتغاه ,ونجح الطرفان فى بث الرسائل المرجوة دون أن يكون هناك حاجة لعقد إتفاقات معلنة ,فالزيارة فى ذاتها نتيجة.
وبين لهيب التحالفات والتحالفات المضادة ,وضجيج المثلثات المتحاربة ,يودع المحيط الهادئ هدوءه للأبد ليصبح بحرالظلمات والمدافع المدوية ,تفقد فى عتمته سفن المفاوضات الطريق ,ويضيع صوت السلام بين أمواجه الهائجة بسبب الضجيج ,لاحوار ولا منطقة وسطى يتقابل فيها الإثنان فكل الآراضى باتت بركانا قد أوشك على الانفجار,وكل الأطراف باتت صيادين ينكبون على تقوية شباكهم والتهام أكبر قدرمن الأسماك ,يتنابزون بكثرتها ويطعمونها حتى تصبح قروشا.
أما هناك حيث العالم الآخرالرافض للإنحياز ,حيث أحلام الهدوء والسلام ,فسيظل العالم يحترق من حولهم حتى تسود أجسامهم وتختنق أصواتهم.